يا من عزم على السفر إلى الله والدار الآخرة، قد رُفع لك علم فشمر إليه فقد أمكن التشمير، واجعل سيرك بين مطالعة منته ومشاهدة عيب النفس والعمل والتقصير، فما أبقى مشهد النعمة والذنب للعارف من حسنة يقول: هذه منجيتي من عذاب السعير، ما المعول إلا على عفوه ومغفرته فكل أحد إليهما فقير، أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبى فاغفر لي، أنا المذنب المسكين وأنت الرحيم الغفور.
ما تساوى أعمالك _لو سلمت مما يبطلها_ أدنى نعمة من نعمه عليك، وأنت مرتهن بشكرها من حين أرسل بها إليك، فهل رعيتها بالله حق رعايتها وهى في تصريفك وطوع يديك؟ فتعلق بحبل الرجاء وادخل من باب التوبة والعمل الصالح، (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)[فاطر:30]
،نهج للعبد طريق النجاة وفتح له أبوابها، وعرفه طرق تحصيل السعادة وأعطاه أسبابها، وحذره من وبال معصيته وأشهده على نفسه وعلى غيره شؤمها وعقابها، وقال: إن أطعتَ فبفضلى وأنا أشكر، وإن عصيت فبقضائى وأنا أغفر، (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ )[فاطر:34].
أزاح عن العبد العلل، وأمره أن يستعيذ به من العجز والكسل، ووعده أن يشكر له القليل من العمل، ويغفر له الكثير من الزلل، (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ )[فاطر:34].
أعطاه ما يشكر عليه، ثم يشكره على إحسانه إلى نفسه لا على إحسانه اليه، ووعده على إحسانه لنفسه أن يحسن جزاءه ويقربه لديه، وأن يغفر له خطاياه إذا تاب منها ولا يفضحه بين يديه، (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ )[فاطر:34].
وثقت بعفوه هفوات المذنبين فوسعتها، وعكفت بكرمه آمال المحسنين فما قطع طمعها، وخرقت السبعَ الطباق دعواتُ التائبين والسائلين فسمعها، ووسع الخلائق عفوه ومغفرته ورزقه، فما من دابة فى الارض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها،(إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ )[فاطر:34].
يجود على عبيده بالنوال قبل السؤال، ويُعطى سائله ومؤمليه فوق ما تعلقت به منهم الآمال، ويغفر لمن تاب اليه ولو بلغت ذنوبه عدد الآمواج والحصى والتراب والرمال،(إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ )[فاطر:34].
أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وأفرح بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التى عليها طعامه وشرابه فى الأرض المهلكة إذا وجدها، وأشكر للقليل من جميع خلقه فمن تقرب اليه بمثقال ذرة من الخير شكرها وحمدها، (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ )[فاطر:34].
تعرف الى عباده بأوصافه وأسمائه، وتحبب اليهم بحلمه وآلائه، ولم تمنعه معاصيهم بأن جاد عليهم بآلائه، ووعد من تاب اليه وأحسن طاعته بمغفرة ذنوبه يوم لقائه، (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ )[فاطر:34].
السعادة كلها فى طاعته، والأرباح كلها فى معاملته، والمحن والبلايا كلها فى معصيته ومخالفته، فليس للعبد أنفع من شكره وتوبته ،(إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ )[فاطر:34].
أفاض على خلقه النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذى كتبه أن رحمته تغلب غضبه، (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ )[فاطر:34].
يطاع فيشكر وطاعته من توفيقه وفضله، ويعصى فيحلم ومعصية العبد من ظلمه وجهله، ويتوب اليه فاعل القبيح فيغفر له، حتى كأنه لم يكن قط من أهله، (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ )[فاطر:34].
الحسنة عنده بعشر أمثالها أو يضاعفها بلا عدد ولا حسبان، والسيئة عنده بواحدة ومصيرها الى العفو والغفران، وباب التوبة مفتوح لديه منذ خلق السموات والارض الى آخر الزمان، (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ )[فاطر:34].
بابه الكريم مناخ الآمال ومحط الأوزار، وسماء عطاه لا تقلع عن الغيث بل هى مدرار، ويمينه ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ )[فاطر:34].
لا يُلقى وصاياه إلا الصابرون، ولا يفوز بعطاياه إلا الشاكرون، ولا يهلك عليه إلا الهالكون، ولا يشقى بعذابه إلا المتمردون، (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ )[فاطر:34].
فإياك أيها المتمرد أن ياخذك على غرة فإنه غيور، وإذا أقمت على معصيته وهو يمدك بنعمته فاحذره فإنه لم يهملك لكنه صبور، وبشراك ايها التائب بمغفرته ورحمته، (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ )[فاطر:34].
ومن علم أن الرب شكور تفوع فى معاملته، ومن عرف أنه واسع المغفرة تعلق بأذيال مغفرته، ومن علم أن رحمته سبقت غضبه لم ييأس من رحمته،(إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ )[فاطر:34].
من تعلق بصفة من صفاته أخذته بيده حتى تدخله عليه، ومن سار إليه بأسمائه الحسنى وصل إليه، ومن أحبه أحب أسمائه وصفاته، وكانت آثر شئ لديه.
حياة القلوب فى معرفته ومحبته، وكمال الجوارح فى التقرب إليه بطاعته، والقيام بخدمته والألسنة بذكره والثناء عليه بأوصاف مدحته، فأهل شكره أهل زيادته، وأهل ذكره أهل مجالسته، وأهل طاعته أهل كرامته، وأهل معصيته لا يقنطهم من رحمته، إن تابوا فهو حبيبهم، وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم يبتليهم بأنواع المصائب، ليكفر عنهم الخطايا ويطهرهم من المعائب، (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ )[فاطر:34].
فالحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، حمدًا يملأ السموات واﻷرض ومابينهما، وما شاء ربنا من شيء بعد بمجامع محامده كلها ما علمنا منها وما لم نعلم، على نِعَمِه كلها ما علمنا منها وما لم نعلم، عدد ما حمد الحامدون، وغَفل عن ذكره الغافلون، وعدد ما جرى به قلمُه، وأحصاه كتابُه واحاط به علمه.
وصلى الله على عبده ورسوله محمد نبي الرحمة وإمام المتقين وقائد الخير، وسلم تسليمًا كثيرًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ابن القيم
Comments
Post a Comment